-
إن بعض الأمور الهامة كالصلاة الخاشعة، وكتذكر الموت وعوالم ما بعد الموت، من الأمور الدافعة للإنسان إلى الأمام.. ولكن المشكلة أننا نرى الموت كالشبح.. فالبعض لا يزور المقابر؛ لئلا يصاب باكتئاب مثلاً.. ولا يزور المرضى في المستشفيات، لأن المستشفى، والمرضى، وغرفة العمليات، والمغتسل، هذه الأماكن تذكره بالموت.. وبالتالي، فإنه يحاول أن يتحاشى التواجد في هذه الأماكن.. والحال أننا مقدمون على هذه الحقيقة، شئنا أم أبينا.. لذا، فلابد من أن نعلم ما هو الموت، وما هي المراحل؟.. وكيف ندفع الأهوال؟..
-
وهنيئاً لمن كان مستعداً قبل ذلك!.. إن البعض -مع الأسف- يرى أن الاستعداد للموت يكون في أواخر الحياة، عندما يشتعل الرأس شيباً، وعندما ينتهي من تزويج الأولاده والبنات، عندئذ يتفرغ لآخرته.. وهنالك مفهوم خاطئ، بل مضحك في بعض الحالات: وهو أن البعض لا يحج إلا بعد سن الأربعين، لأنه يريد أن يتمتع بالحياة، ثم بعد ذلك يتوب ويذهب إلى الحج!..
إن هذا المفهوم مرفوض جملة وتفصيلاً.. فالإنسان كلما زاد ذكرا للموت، كلما اتزن في مشيته، فالقضية ليست قضية رعب وخوف، وتذكر أمور سوداوية.. بل العكس، فإن الإنسان الذي يتذكر الموت، يزداد صلابة في الحياة.. ومن مصاديق ذلك: هل هنالك في عالم الوجود إنسان ثنيت له الوسادة، وأعطي ما يتمناه؟.. إن هذا المعنى لم يتحقق لأحد.. حتى أن نبي الله موسى (ع) كان يتألم عندما يسمع بعض التهم، وفي التأريخ نقل أن موسى (ع) أتهم بتهم أخلاقية من قبل أعوانه، فقال موسى (ع):
(يا ربِّ!.. احبس عني ألسنة بني آدم، فإنهم يذمّوني -وقد أُوذي كما قال الله جلّ جلاله عنهم: {لا تكونوا كالذين آذوا موسى}- فأوحى الله جلّ جلاله إليه: يا موسى!.. هذا شيء ما فعلته مع نفسي، أفتريد أن أعمله معك؟.. فقال: قد رضيت أن تكون لي أسوة بك).. أي أن الإنسان يتهم الله –عز وجل- بسوء القضاء والتدبير، ولو في مقام العمل.. إن الإنسان بعض الأوقات لا يكفر بالقول، وإنما يكفر بالعمل: كأن يتمنى غير ما وقع عليه، فكأنه يقول
: يا رب أنت لم تكن موفقاً في قضائك وقدرك، ولم تكن حكيماً عندما سلبتني قرة عيني.. بينما عندما يبتلى الإنسان بفقد عزيز، فإن هذا الانفصال يكون لسنوات قصيرة، ثم يلتحق بهم.. لأن الإنسان عندما يدخل الجنة، يجمع الله –عز وجل- بينه وبين عائلته، قال رسول الله (ص
): (ما من أهل بيت يدخل واحد منهم الجنة إلا دخلوا أجمعين الجنة، قيل: وكيف ذلك؟.. قال: يشفع فيهم فيُشفّع حتى يبقى الخادم، فيقول: يا رب!.. خويدمتي قد كانت تقيني الحرّ والقرّ، فيُشفّع فيها).-
إن الذي يستوعب حقيقة السفر الأخروي، هذا الإنسان كما يقال في عرف الناس هذه الأيام: صاحب أعصاب باردة جداً، إلى درجة أن البعض لا يتعقل ما يعيشه أولياء الله، من حالة الاستسلام والاتزان.. كان أحدهم في سفر إلى بيت الله الحرام، هذا الإنسان اللبق -إن صح التعبير- أو الذكي، أو الخبير، قال: يا رب!.. هب لي نفسك، وخذ مني ما شئت!.. أي يا رب اجعل وجودك متمثلاً فيّ، وبعبارة واضحة: اجعل مرآة نفسي عاكسة لصفات جلالك وجمالك.. أي طلب من الله -عز وجل- أن يجعله يتخلق بأخلاقه.. وعندما رجع إلى وطنه، أخبر بأن ولده الذي في ريعان شبابه قد مات أثناء سفره للحج.. ففرح في باطنه فرحاً لا يمكن أن يوصف، وقال في نفسه: يا رب يبدو أن الصفقة قد تمت!.. هو فقد عزيزاً له، ولكن في المقابل حصّل قرب الله عز وجل.. فمثل هذا الإنسان من المؤكد أنه لا يخاف من الموت.
ومن هنا، فإن على المؤمن أن يكون طموحا، وخاصة عندما يذهب إلى بيت الله الحرام: في عمرة، أو في حج.. فهو في ضيافة الله، وفي بيت الله، وأمام الباب، والحطيم والملتزم والمستجار، فليسل الله -عز وجل- حاجة كبرى، ولا يقتصر على الأمور الدنيوية البسيطة، كالمال والزوجة والأولاد.
إن الملكي التبريزي، صاحب كتاب لقاء الله، كان من كبار المراقبين.. هذا الإنسان في يوم الغدير سقط له صبي أو حفيد في حوض الماء فمات غرقاً، وإذا بعويل النساء.. ولكن هذا الشيخ الجليل، صاحب كتاب المراقبات وغيره، قال: لله –عز وجل- هدايا وعطايا في عيد الغدير، ولكن يبدو أن النساء لا يعرفون قدر هذه الهدية!..
في بعض الروايات: بشرى لأهل البلاء!.. ومن منا ليست له بلية في نفسه، أو في ماله، أو في عائلته؟.. إن بعض الآباء يعيش حرقة في قلبه لا توصف، لأنه أمضى عمراً طويلاً في الكدح أيام الشباب، حتى ربى هذا الولد إلى أن بلغ سن الرشد، وإذا به يسلك طريق المحارم والفجور!.. هو مؤمن، وحياته جيدة، وراتبه جيد، ومنزله طيب، وزوجته مطيعة؛ ولكنه مبتلى بهذا الولد المشاكس.
وعليه، فإن الإنسان الذي له سلسلة من الحوائج، ويراها غير مقضية، عليه أن لا ييأس.. فعن الإمام الصادق (ع) أنه قال
أن المؤمن ليدعو في حاجته، فيقول الله تعالى: أخروا حاجته شوقاً إلى دعائه، فإذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى: عبدي دعوتني في كذا، فاخرّت إجابتك، وثوابك كذا.. قال: فيتمنى المؤمن أنه لم تستجب له دعوة في الدنيا، لما يرى من حسن ثوابه).
- إننا عندما نقول: الموت وما بعد الموت، يتبادر إلى الذهن: منكر ونكير، وعذاب القبر.. والحال أن هنالك بعض صور العطاء الإلهي في عرصات القيامة، مما يجعل الإنسان يعيش الأمل الآن.. وليس معنى ذلك أن يركن المؤمن إلى شيء من هذا القبيل، ولكن إذا حرصنا على الاستقامة وزلت بنا الأقدام، فرب العالمين سيعوضنا ويتدارك الموقف.
- ماذا يقول القرآن الكريم وروايات أهل البيت عن الموت؟..
القرآن الكريم ينسب الموت إلى الله عز وجل:
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}.. هو المتوفي وفي نفس الوقت يقول:
{قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}..من هو المتوفي، الله -عز وجل- أو ملك الموت؟..
إن هذه الإشكالية لو طرحت على طفل في الابتدائية، لأجاب: أنه لا منافاة في البين.. فالله –عز وجل- هو الأصيل، وملك الموت هو الوكيل.. فالمتوفي –رب العالمين- يأمر ملك الموت فينفذ.. وعندما يصل الأمر إلى علي قسيم الجنة والنار، فإن البعض يقول: هذا غلو!.. فأين الله عز وجل؟!.. إن الله –عز وجل- هو من أعطاه الموازين، وأعطاه مقاييس إدخال الجنة والنار.. فرب العالمين هو الذي يحدد الشروط، وعلي (ع) ينفذ القواعد، فما الغرابة في ذلك؟!.. فعندما نقول في الزيارة: بكم ينزل الغيث.. أي أن الله -عز وجل- هو الذي نزّل الغيث، ولكن بهذه الوسائط:
{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}.فإذن، كما أن الإحياء كان لعيسى (ع) بأمر الله، والإماتة لعزرائيل بأمر الله.. فما المانع أن ننسب الأعمال الكبرى للنبي وآل النبي، إذا كان دورهم دور الوكيل لا دور الأصيل؟!.. بهذه الكلمة البسيطة، يمكننا أن نستوعب الكثير من فضائل أهل البيت، من دون أن ندخل في الغلو أبداً.. فإذن، إن رب العالمين هو الذي يميت.
- إنعلماء التفسير يقولون: هنالك علاقة بين أولي الأيدي والأبصار، وبين أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار:
{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}.. فهؤلاء إنما صاروا أولي الأيدي والأبصار، لأنهم كانوا على ذكر مستمر للدار الآخرة.. فأولي الأيدي والأبصار؛ أي أولي التنفيذ.. فاليد كناية عن التنفيذ، والأبصار كناية عن البصيرة.. فالذي يقوم بالخيرات، هو صاحب يد، ولكن ليس صاحب بصيرة.. فهو قد ينفق المال في سبيل الخير على حد زعمه، ولكنه لا يوفق لذلك.. كم من أهل الخير والإحسان أنفقوا ما أنفقوا، ولم يسددوا في إنفاقهم!.. أو سددوا في إنفاقهم، وكان بالإمكان أن يقوموا بعمل أفضل مما قاموا به!..
وبالتالي، فإن الإنسان صاحب اليد والخير، لابد أن يكون صاحب بصيرة.. وطوبى لعلي وآل علي!.. فقد أنفقوا في سبيل الله أقراصا، ولكن الله -تعالى- خلد ذكرهم في سورة الإنسان.
-
إن القضية قضية مرتبطة بسلوكنا في الدنيا، فكلما ازداد الإنسان ذكراً للموت والآخرة، كلما زاد إنفاقاً.. فمن بركات ذكر الآخرة: السعي لزراعة الآخرة، لأن الدنيا مزرعة الآخرة.. فمنموجبات الحسرة القاتلة، أن لا يجعل الإنسان شيئاً من أمواله بعد موته لله تعالى.. حيث أن هناك آلاف السنين من الانتظار في القبر، وفي عالم البرزخ، ثم على الصراط، ثم على باب الجنة، ومواقف القيامة التي لا يعلمها إلا الله -تعالى- إلى أن يدخل الإنسان الجنة، إن كان من أهل الجنة.. والانتظار أشد العذاب!.. فلنسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا من أولئك القوم الذين يخرجون من القبور إلى الجنة بغير حساب!..
-
إن كان المؤمن لا يتحمل الإنفاق في الدنيا، فلماذا ينسى الثلث؟!.. فهذه مزية يجب على الإنسان العاقل أن يقدم عليها، ليستفيد منها بعد موته!.. فهذا الثلث متاح له، وبكلمة واحدة.. فالبعض يعتقد أنه لابد من الذهاب إلى المحاكم وغيره، بينما الأمر لا يحتاج أكثر من شاهدين بل شاهد واحد يكفي، يقول أمامه: اجعلوا ثلث أموالي في سبيل الله، ينفقونها بما يرونه أنه من مصاديق القربة إلى الله عز وجل.. وعليه أن لا يضيق على الورثة!.. فالبعض يجعل في ثلثه خمسين قيداً، فيرهق الورثة بقيوده الكثيرة.
فإذن، هؤلاء هم أولي الأيدي والأبصار.. فمن ثمرات ذكر الموت، أن يخطط الإنسان ويبرمج لنفسه في هذه الدنيا قبل الانتقال إلى تلك النشأة.
-
إن أهل الكتاب لهم قيمتهم، ولكن قبل الإسلام، وعندما جاء الإسلام أصبح هو الدين، يقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ}.. فكلمة (لستم على شيء) يعد من أشد أنواع التنقيص.. ولكن عندما يصل الأمر إلى الحياة الدنيا، فإن رب العالمين يجعل الحياة الدنيا في كفة، ويجعل الآخرة في كفة، فمن الآيات التي هي من أكثر الآيات تحقيراً للدنيا: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}..ومع الأسف هذه الأيام أصبح اللعب واللهو الذي ورد في سياق الذم كلمة مقدسة، ويعطى عليها الجوائز والأموال.
-
إن اللعب لعب، ولكن ما هو اللهو؟.. إن اللهو هو ذلك الشيء الذي يشغل الإنسان عن الله عز وجل، ولو كان من أتم مصاديق الجد عند أهل الدنيا.. فمثلا: إنسان قدم على قرض بمليون دينار في بنك ربوي، وفي اللحظات الأخيرة للتوقيع، وإذا بالمؤذن يقول: حي على الصلاة!.. حي على خير العمل!.. هو يوقع العقد وسيأخذ بعد دقائق مليون أو أكثر، فيرى نفسه أنه قد ربح رأس مال مغر.. ولكن القرآن يقول: أنت لاه، لأنك تركت الصلاة، وانشغلت عن ذكر الله –عز وجل- بهذا الأمر.. فهذه صورة في الحرام.
ولكن أيضا هناك لهو في صورة الحلال: فالعالم الذي يشتغل بغير الله –عز وجل- في الوقت الذي يطالب بالتوجه إلى الله عز وجل، هذا العالم ليس بعالم.. أحد كبار العلماء ذهب إلى المسجد ليصلي، وفي الطريق سألته امرأة عن مسألة شرعية فيما يخص النساء، فأجابها، ولكن انشغل باله بهذا الجواب.. فصلى صلاته وهو يعيش هذا الهاجس، مع أنه هاجس أصله مقدس.. فأحد الأولياء الصالحين رأى هذا العالم يسبح في بحر من الدماء!..
فإذن، كل أمر يلهي الإنسان عن ذكر الله عز وجل، فهو لعب ولهو.. والإنسان يعيش في هذه الدنيا حياة جميلة، ولكن القرآن الكريم يقول: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}؛ أي هي الحياة.. وإنما هذه الحياة هي عبارة عن لهو ولعب، والحياة الحقيقية في الآخرة.. ولكن نحن لا نفهم هذه المعادلة، يقول تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.. إنالمشكلة هي أن عقولنا قاصرة عن فهم هذه المعاني.. أو رأيتم تعبيرا أشد من هذا التعبير؛ تحقيراً لما نحن منشغلون به؟!.. فالقرآن الكريم في بعض الحالات يريد أن يوجد فينا زلزالاً.. إن البعض عندما تتسق له الحياة، كأن يكون له: منزل، وراتب، وزوجة، وذرية.. فإنه يرى أنه بألف عافية، بينما القرآن الكريم يقول: أن هذا الإنسان ليس على حياة، وهذه الحركة كلها في دائرة اللهو واللعب..
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.. فبالمجاهدة والمتابعة في هذا المجال، يصل الإنسان إلى درجة انكشاف الرؤيا.
تابعوا تتمة المحاضره ...